فصل: تفسير الآيات (8- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في البلد:
وقد ورد في القرآن على خمسة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى مَكَّة {لاَ أُقْسِمُ بِهذا البلد}، {وَهذا البلد الأَمِينِ} {اجْعَلْ هذا البلد آمِناً} {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ}.
الثانى: بمعنى مدينة سبَأ: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ}.
الثالث: كناية عن جُمْلة المدُن: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ}.
الرّابع: بمعنى الأَرض لا نبات فيها: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ}.
الخامس: بمعنى الأَرض التي بها نبات: {وَالبلد الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ}.
وقيل: هو كناية عن النفوس الطَّاهرة، وبالذى خبث عن النفوس الخبيثة.
والبلد لغة: المكان المحدود، المتأَثِّر باجتماع قُطَّانِهِ، وإِقامتهم فيه. وجمعه بلاد، وبُلْدان.
وسمّيت المفازة بلداً؛ لكونها موضع الوحشيّات، والمقبرةُ بلداً؛ لكونها موطن الأَموات (والبلدة منزل من منازل القمر) والبلد: البُلْجَةُ ما بين الحاجبين؛ تشبيها بالبلد؛ لتحدّدِهِ.
وسمّيت الكِرْكرة بَلْدة لذلك.
وربّما استعير ذلك لصدر الإِنسان.
ولاعتبار الأَثر قيل: بجلده بَلْدة: أي أَثر.
وجمعه أَبلاد، قال:
وفى النُّحورِ كلومٌ ذاتُ أَبلادِ

وأَبلد: صار ذا بلد؛ كأَنجد وأَتْهم، وَبَلد: لزم البلد.
ولمّا كان اللاَّزم لوطنه كثيراً ما يتحيّر إِذا حصل في غير وطنه، قيل للمتحيّر: بَلَدَ في أَمره وأَبَلَدَ، وتبلَّدَ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال الشنقيطي:
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد}.
هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة مع أنه تعالى أقسم به في قوله: {وَهَذَا البلد الأَمِينِ}.
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: وعليه الجمهور: أن {لاَ} هنا صلة على عادة العرب فإنها ربما لفظت بلفظة (لا) من غير قصد معناها الأصل بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده لقوله: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تتبِعَنِ} يعني أن تتبعني وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} أي أن تسجد على أحد القولين.
ويدل له قوله في سورة ص {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ} الآية.
وقوله: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم أهل الكتاب، وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي فوربك، وقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أي والسيئة، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} على أحد القولين، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} على أحد القولين، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا} على أحد الأقوال الماضية وكقول أبي النجم:
فما ألوم البيض ألا تسخرا ** لما رأين الشمط القفندرا

يعني أن تسخر وكقول الشاعر:
وتلحينني في اللهو أن لا أحبه ** وللهو داع دائب غير غافل

يعني أن أحبه و(لا) زائدة.
وقول الآخر:
أبى جوده لا البخل واستعجلت به ** نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

يعني أبى جوده البخل و(لا) زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ولاسيما على رواية البخل بالجر لأن (لا) عليها مضاف بمعنى لفظة لا فليست زائدة على رواية الجر وقول امرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامري ** لا يدعي القوم أني أفر

يعني وأبيك.
وأنشد الفراء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد.
قول الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله دينهم ** وإلا طيبان أبو بكر ولا عمر

يعني وعمر و(لا) صلة وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:
في بئر لاحور سرى وما شعر ** بافكه حتى رأى الصبح جشر

فالحور الهلكة يعني في بئر هلكة و(لا) صلة قاله أبو عبيدة وغيره.
وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي:
أفعنك لا برق كأن وميضه ** غاب تسنمه ضرام مثقب

ويروي أفمنك، وتشيمه بدل أفعنك وتسمنه.
يعني أعنك برق و(لا) صلة.
ومن شواهد زيادتها قول الشاعر:
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ** وكاد صميم القلب لا يتقطع

يعني كاد يتقطع.
وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ:
أعائش ما لقومك لا أراهم ** يضيعون الهجان مع المضيع

فغلط منه لأن (لا) في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ومقصودة أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون ما لهم أي لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبيني في حفظ مالي وما ذكره الفراء من أن لفظة (لا) لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد فهو أغلبه لا يصح على الإطلاق بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية على القول بأن (لا) فيها صلة وكبيت ساعدة الهذلي وما ذكره الزمخشري من زيادة (لا) في أول الكلام دون غيره فلا دليل عليه.
الوجه الثاني: أن {لا} نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم وقوله: {أقسم} إثبات مستأنف وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء فليس بوجيه عندي لقوله تعالى في سورة القيامة {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} لأن قوله تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} يدل على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله أقسم والله تعالى أعلم.
.
الوجه الثالث: أنها حرف نفي أيضا ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية والمراد أنه لا يعظم بالقسم بل هو في نفسه عظيم أقسم به أولا وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ولا يخلو عندي من بعد.
الوجه الرابع: أن اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث ابن وقاص الحارثي:
وتضحك مني شيخة عبشمية ** كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا

فالأصل كأن لم تر ولكن الفتحة أشبعت- وقول الراجز:
إذا العجوز غضبت فطلق ** ولا ترضاها ولا تملقي

فالأصل ترضها لأن الفعل مجزوم بلا الناهية- وقول عنترة في معلقته:
ينباع من ذفري غضوب جسرة ** زيافة مثل الفنيق المكدم

فالأصل ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته فأشبع الفتحة فصار ينباع على الصحيح وقول الراجز:
قلت وقد خرت على الكلكال ** يا ناقتي ما جلت من مجالي

فقوله الكلكال يعني الكلكل، وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة الشعر لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرف يناسبها أسلوب من أساليب اللغة العربية ولأنه مسموع في النثر كقولهم كلكال وخاتام وداناق يعنون كلكلا وخاتما ودانقا.
ومثله في إشباع الضمة بالواو، وقولهم: برقوع ومعلوق يعنون برقعا ومعلقا.
ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير:
ألم يأتك والأنباء تنمى ** بما لاقت لبون بني زياد

فالأصل يأتك لمكان الجازم- وأنشد له الفراء:
لا عهد لي بنيضال ** أصبحت كالشن البال

ومنه قول امرئ القيس:
كأني بفتحاء الجناحين لقوة ** على عجل مني أطأطئ شيمالي

ويروى:
صيود من العقبان طأطأن شيمالي

ويروى:
دفوف من العقبان....

إلخ. ويروى: شملال بدل شيمال.
وعليه فلا شاهد في البيت إلا أن رواية الياء مشورة.
ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر:
هجوت زبان ثم جئت معتذرا ** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع

وقول الآخر:
الله أعلم أنا في تلفتنا ** يوم الفراق إلى إخواننا صور

وإنني حيثما يثني الهوى بصري ** من حيثما ما سلكوا أدنوا فأنظور

يعني فانظر، وقول الراجز:
لو أن عمرا عم أن يرقودا ** فانهض فشد المئزر المعقودا

يعني يرقد، ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل: (لأقسم بهذا البلد) بلام الابتداء وهو مروي عن البزي والحسن والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآيات (8- 16):

قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عينين (8) وَلِسَانًا وشفتين (9) وَهَدَيْنَاهُ النجدين (10) فَلَا اقْتَحَمَ العقبة (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة (12) فَكُّ رقبة (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مسغبة (14) يَتِيمًا ذَا مقربة (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا متربة (16)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أنكر عليه سبحانه وتعالى هذه النقائص قرره على ما أوجب شهوته الحسية المتفرعة إلى أنواع بما يستلزم أن يكون فاعله له المانّ عليه به من بعض فيضه، عالماً بجميع أمره قادراً على نفعه وضره بنفسه وبمن أراد من جنده، فقال مشيراً إلى ما يترتب على نظر العين الباصرة الجائلة في العالم الحسي ونظر عين البصيرة الجائلة في العالم المعنوي من شهوته أن يحصل على كل ما يراه بعين باصرته ويعلمه بعين بصيرته من مليح، ويخلص من كل ما يراه من قبيح، ومذكراً له بما كان يجب عليه من الشكر باستعمال هذه المشاعر فيما شرع له وكفها عما منع الله منه: {ألم نجعل} أي بما لنا من العظمة التي لا يمكن أحداً أن يضاهيها ولا يقرب منها {له عينين} يبصر بهما وإلا لتعطل عليه أكثر ما يريد، شققناهما وهو في الرحم في ظلمات ثلاثة على مقدار مناسب لا يزيد أحداهما على الأخرى شيئاً وقدرنا البياض والسواد أو الزرقة أو الشهلة أو غير ذلك على ما ترون، وأودعناهما البصر على كيفية يعجز الخلق عن إدراكها.
ولما قدره سبحانه على ما ينشأ عنه شهوتا تحصيل المليح ونفي القبيح، اتبع ذلك ما ينشأ عنه شهوتا الأمر والنهي وأنواع الكمالات الكمالية فقال: {ولساناً} أي يترجم به عما في ضميره {وشفتين} أي يستران فاه ويعينانه على الأكل والشرب وعلى النطق بفصاحة وبلاغة على حد معلوم لا يبلغه غيره، فيجتمع له أمره ويصل إلى مقاصد جمة وأهوال مهمة، ولم يذكر السمع لأن الكلام يستلزمه، والمعنى: ألسنا قادرين بالقدرة التي جعلنا له بها ما ذكر على أن نجعل لغيره مثل ما جعلنا له وأكثر فيقاومه ويغلبه.
ولما كان لله تعالى على كل أحد في كل لمحة منة جديدة في إبقاء هذه الآلات الثلاث، عبر فيها بالمضارع، ولما كانت النعمة في العقل إنما هي بهبته أولاً ثم بحمله به على الخير ثانياً، وكان أمره خفياً، وكان من المعلوم أن كل أحد غير مهدي في كل حركاته وسكناته إلى ما يسعده، بل كان هذا المنكر عليه لم يؤهل لطريق الخير، اختير له لفظ الماضي لذلك تحقيقاً لكونه وجعله غريزة لا تتحول وطبيعة لا تتبدل، بل هي غالبة على صاحبها، قائدة إلى مضارة أو محابة ومسارة وإن كره، وهو السبب الذي يكون به الخلاص من شر تلك الأنكاد في دار الإسعاد فقال تعالى: {وهديناه} أي بما آتيناه من العقل {النجدين} أي طريقي الخير والشر، وصار بما جعلناه له من ذلك سميعاً بصيراً عالماً فصار موضعاً للتكليف، روى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، يا أيها الناس إنما هما نجدان: نجد خير ونجد شر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير».
قال المنذري: النجد هنا الطريق- انتهى.
وهو طريق في ارتفاع، عبر عن الخير والشر به لإعلائهما الإنسان عن رتبة باقي الحيوان، ولأن الإنسان لا يختار واحدة منهما إلا بمعاناة وتكلف كمعاناة من يصعد في عقبة، والنجد لغة الموضع العالي، والله تعالى يعلي من أراد على ما شاء منهما بخلاف ما كان يقتضيه ظاهر حاله من أنه لا يحب تكلف شيء أصلاً، ولا يريد الأشياء تأتيه إلا عفواً، وذلك لأجل إظهار قدرته سبحانه وتعالى، أما صعوبة طريق الخير فبما حفه به من المكاره حتى صار العمل به، مع أن كل أحد يعشق اسمه ومعناه، أشد شيء وأصعبه، وأشقه وأتعبه، وأما صعوبة طريق الشر فواضحة جدًّا مع أن الله يلزمه لمن أراد بتسهيله وتحبيبه وتخفيفه وتقريبه مع أن كل أحد يكره اسمه وينفر من معناه، وجعل الله تعالى الفطرة الأولى السليمة التي فطر الناس عليها من الاستقامة بحيث تدرك الشر وتنهى عنه، وتدرك الخير وتأمر به، غير أن الشهوات والحظوظ تعالجها، والغالب من أعانه الله، وإلى ذلك يشير حديث «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت» وحديث «البر ما اطمأنت إليه النفس وانشرح له الصدر، والإثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك».
ولما كان معنى ما مضى أن هذا الإنسان عاجز وإن تناهت قوته، وبلغت الذروة قدرته، لسبق قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفاً} [النساء: 28] وأنه معلوم جميع أمره مفضوح في سره كما هو مفضوح في جهره، كما أشار إليه حديث جندب رضي الله تعالى عنه عند الطبراني «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها».
وحديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه عند أحمد وأبي يعلى «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة يخرج عمله للناس» فهو موصول إليه مقدور عليه، وأنه كان يجب عليه الشكر على ما جعل له سبحانه وتعالى من القوى التي جعلها لسوء كسبه آلات للكفر، سبب سبحانه وتعالى عنه قوله تفصيلاً للأشياء الموصلة إلى الراحة في العقبى نافياً لفعلها عنه على سبيل الحقيقة دلالة على عجزه: {فلا اقتحم} أي وثب ورمى بنفسه بسرعة وضغط وشدة حتى كان من شدة المحبة لما يراه فيما دخل فيه من الخير.
كأنه أتاه من غير فكر ولا روية بل هجماً {العقبة} وهي طريق النجاة، والمقرر في اللغة أنها الطريق الصاعد في الجبل المستعار اسمها لأفعال البر المقرر في النفوس مريحة لا متعب، مع كونها أعظم فخراً وأعلى منقبة، لأنا حجبناه عنها بأيدينا وعظيم قوتنا وعجيب قدرتنا، وذلك أن الخير لما كان محبباً إلى القلوب معشوقاً للنفوس مرغوباً فيه لا يعدل عنه أحد، جعلناه في بادئ الأمر كريهاً وعلى النفوس مستصعباً ثقيلاً حتى صار لمخالفته الهوى كأنه عقبة كؤود، لا ينال ما فيه من مشقة الصعود، إلا بعزم شديد وهمة ماضية، ونية جازمة، ورياضة وتدريب، وتأديب وتهذيب، وشديد مجاهدة وعظيم مكابدة للنفس والهوى والشيطان، بحيث يكون متعاطيه في فعله له كالرامي بنفسه فيه بلا روية رمي العاشق له المتهالك عليه، فكان هذا سبباً لأن هذا الجاهل بنفسه المتعدي لطوره لم يختر لنفسه الخير بما أوتي من البصر الذي يبصر به صنائع الله، والبصيرة التي يعرف بها ما يضره وما ينفعه شكراً لربه سبحانه وتعالى ويكون ذلك لإحسانه إليه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهل جزاء النعمة إلا الشكر، بل اختار الشر وارتكب الضر مع أنا هيأناه لكل منهما فبانت لنا القدرة.
واتضحت في صفاتنا العظمة، وتحقق له الضعف وظهر منه النقص والعجز، فوجب عليه لعزتنا الخضوع، وإجراء مصون الدموع وإظهار الافتقار والذل والصغار، لنقحمه سبيل الجنة وننجيه من طريق النار، ومن اقتحم هذه العقبة التي هي للأعمال الصالحة اقتحم عقبة الصراط، فكانت سهولتها عليه بقدر مكابدته لهذه، واستراح من تلك المكابدات والأحزان والهموم وصار إلى حياة طيبة كما قال الله تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} [النحل: 97] الآية، واقتحامها بأن يرتحل من عالمه السافل إلى العالم العالي الكامل الذي ليس فيه إلا اللذة، وذلك هو الاعتراف بحق العبودية، وتلك هي الحرية لأن الحر من خرج من رق الشهوات إلى خدمة المولى، فصار طوع أمره في سره وجهره لا حظ لشهوة فيه ولا وصول لحظ إليه، وذلك يكون بشيئين: أحدهما جذب والآخر كسب، فالمجذوب محمول.
والكاسب في تعب المجاهدات بسيف الهمة العالية مصول.
ولما بين أنه لا خلاص من النكد إلا بهذا الاقتحام، شرع في تفسير العقبة بادئاً بتهويل أمرها لعظيم قدرها، فقال معبراً بالماضي الذي جرت عادة القرآن بأنه إذا عبر به شرح المستفهم عنه: {وما أدراك} أي أيها السامع لكلامنا، الراغب فيما عندنا {ما العقبة} أي إنك لم تعرف كنه صعوبتها وعظمة ثوابها، فلما تفرغ القلب بالاستفهام عما لا يعرفه، وكان الإنسان أشهى ما إليه تعرف ما أشكل عليه، فتشوفت النفوس إلى علمها، قال مشييراً إلى الأولى التي هي العفة التي ثمرتها السخاء وإصلاح قوة الشهوة معبراً بالفك الذي هو أدنى ما يكون من العتق لأنه الإعانة فيه ولو بما قل كما ورد في حديث البراء رضى الله عنه «أعتق النسمة وفك الرقبة» وعتقها أن تفرد بها، وفكها أن تعين في ثمنها، وفسر المراد بهذه العقبة بما دل على معادل لا كما يأتي تعيين تقديره فإنها لا تستعمل إلا مكررة قال: {فك} أي الإنسان {رقبة} أي من الأسر أو الظلم أو الغرم أو السقم شكراً لمن أولاه الخير وتنفيساً للكربة حباً للمعالي والمكارم لا رياء وسمعة كما فعل هذا الظان الضال ولا لطمع في جزاء ولا لخوف من عناء {أو إطعام} أي أوقع الإطعام لشيء له قابلية ذلك {في يوم ذي مسغبة} أي جوع عام في مكان جوع وزمان جوع- بما أفهمه الوصف والصيغة، فكان لذلك يحمل على الضنة بالموجود خوفاً من مثل ما فيه المطعم فخالف النفس وآثر عليها اعتماداً على الله {يتمياً} أي إنساناً صغيراً لا أب له يرجى أو يخاف {ذا مقربة} لا يرجى بإطعامه إلا التودد لأقاربه للتكثير بهم مع أنه يجمع بذلك بين صدقة وصلة وإن كان غنياً {أو مسكيناً} أي شخصاً لا كفاية له {ذا متربة} أي حاجة مقعدة له على التراب، لا يقدر على سواه، فالآية من الاحتباك: ذكر القرب أولاً يدل على ضده ثانياً، وذكر المتربة ثانياً يدل على ضدها أولاً، وسر ذلك أنه ذكر في اليتيم القرب المعطف، وفي المسكين الوصف المرقق الملطف، فهو لا يقصد بإطعامه إلا سد فاقته، ودخل فيه اليتيم البعيد والفقير من باب الأولى وإن كان أجنبياً. اهـ.